ذَوَتْ قبل أن تنطفئ
شربل داغر
(لبنان)
ذوى نجم نازك الملائكة قبل أن ينطفئ. حتى أن أحد النقاد (لندن) نعاها قبل أن تموت. وهي سلكت، في كتابات عديدين، سبيل التقويم "النهائي" قبل أن تنقطع عن الكتابة، وإن أقام أحد النقاد (السعودية) حملة لإحياء "ريادتها" (التي انتقص من قيمتها الخطاب "الذكوري") من دون أن يكون لحملته صدى مديد.
لعل اجتماعها بالسياب أضر بها، بعد أن غاب السياب مبكراً واحتل لهذا السبب وغيره سريعاً مكانة "الرائد". وما زاد الظلم اللاحق بها هو أنها طلبت "التقعيد" لتجربة شعرية كانت تنبني في ممارسة كتابية يتضح فيها التفلت أكثر من البناء، التجريب أكثر من التنميط.
لهذا بدت الملائكة لغيرها "قاضية" محافظة أكثر منها "ملعونة"، إذا جازت التسمية والتشبيه.
كما إن تجربة "الشعر الحر" بدت معها "ظاهرة عروضية محدثة"، فيما كانت الممارسة الشعرية لغيرها تتفنن في تمرينات وانبناءات مخالفة. هكذا قال أدونيس في "الكوليرا": "إن أي شخص يُعنى عميقاً بالشعر أو يمتلك خبرة في التذوّق والنقد، لا يسقط هذا النص من إطار الشعر الحديث وحسب، وإنما يسقطه أيضاً من إطار الشعر".
سقطت "ريادة" الملائكة لهذا الشعر الجديد، منذ بداياتها، حتى أن ريادة السياب بالمعنى العروضي "المحدث" سقطت هي الأخرى، بعد القيام بتحقيقات ميدانية عديدة في عدد من البلدان العربية الأخرى أثبتت بروز التنويع العروضي الجديد عند شعراء عديدين، مثل باكثير وعوض في مصر أو "جماعة أبولو" في تجريبها ل"مجمع البحور" (أي الجمع بين بحور مختلفة في القصيدة الواحدة)، أو "عرار" الأردني، أو "الشعر المهجري" أو تجارب خليل مطران وغيرهم ممن ظل مجهولاً أو غير معروف إلا في مواقع ضيقة.
إلا أن النقد حفظ لها مكانة أضمن وأوثق، منذ زمن بعيد، ولا سيما في دراساتها التي ضمها كتابها الذائع الصيت، والذي يعتبر من أفضل المساعي في درس الشعر الحر، في عروضه، وعلاقاته التعبيرية مع الشروط الاجتماعية والتاريخية.
لهذا قد يكون من الأنسب البحث في طبيعة هذا التجديد، أو في "أوجهه" المختلفة. ذلك أن النظر النقدي جعل التجديد ظاهرة عروضية مستحدثة ليس إلا، وهو فهم يستدعي عدة تدقيقات. منها النظر إلى مسألة العروض خارج المنظور القالبي الذي حكم نظرات العديدين من النقاد والشعراء إلى التجديدات هذه: فلقد جرى الكلام عن "كسر" العروض، أو عن تنويع القوافي وحسب (وهو ما نسميه بالنظر إلى الشأن القالبي فقط)، من دون النظر إلى مفاعيل هذا التغير العروضي على المستويات المختلفة في كل قصيدة. ذلك أننا وجدنا أن تغير المبنى العروضي وإن بدا عند بعضهم تنويعات وتشطيرات أتاحها الشعر العربي في عهديه، الأندلسي والعثماني غيّر أسساً في الصنيع الشعري، ووجد صيغاً تركيبية ودلالية، منوعة ومختلفة، في السطر الواحد، كما في علاقات الجمل والسطور الشعرية بعضها ببعض. وهي تغييرات أفاد منها الشاعر وجربها، وأتاحها التأليف نفسه (بما أن القصيدة لم تعد "نظماً" لأسباب الشعر كلها في قالب مضغوط، ووفق توظيفية ترشيدية لها، كما هو عليه الحال في القصيدة العمودية).
موعد العام 1947 العروضي تلغيه السوابق التجديدية له والسابقة عليه، ما يدعونا إلى تدبير تأريخي آخر يعيد إلى التجارب العربية المختلفة حظوظها المختلفة في "السبق" التجديدي. هو موعد "ساقط"، إلا انه يدعونا إلى التفكير بعوامل أخرى أدت إلى تجديد الشعر، غير التنويع العروضي، وهي عوامل موجودة قبل 1947، وإن حافظت القصائد فيها على العروض في صيغه القديمة. ذلك أننا عايشنا في مدى واسع من التجارب الشعرية تعايشاً نزاعياً، فيه عوامل تجديد وعوامل محافظة، في أشكال مختلفة في مستويات القصيدة: تمثل التجديد، بداية، في عوامل المعنى قبل أن يبلغ لاحقاً عوامل المبنى (وخاصة العروض)، على ما في التمييز هذا بين نوعي العوامل من تسرع والتباس وتداخل. وليس غريباً في هذا المسار الذي يعود، والحالة هذه، إلى منتصف القرن التاسع عشر، أن لا يتحقق الانفصال التام، أو تجديد مستويات القصيدة كلها، إلا بعد الخروج، ولو المخفف والتنويعي، من العروض أعتى أبواب المحافظة الشعرية وخاتمتها. وعند ذلك تكون العودة إلى الوراء لازمة تاريخية لوضع الحداثة في مدى الحركة التي أوجدتها في إطار "المثاقفة" وفي ضلوع الشعر في تعايش (مختلفة الأوجه، التآلفية والنزاعية) مع مرجعيتين، العربية والأوروبية، وحتى أيامنا هذه.
وهذا يدعونا إلى التعامل مع القصيدة لا على أنها نص منسجم ومتوافق، بل على أنها نص متفاوت وله مرجعيات متعددة، قبل أن تتوافر فيه أو تجتمع مستويات التجديد المختلفة. وقد يكون من الأنسب في هذه الحالة، النظر إلى أوجه التجديد في صورة منفردة أو متفرقة، فنتوقف عند كل وجه على حدة، فلا يغيب عنها، على سبيل المثال، لا حدوث التغيّرات العروضية كلها، ولا دخول القصيدة مضامين جديدة، ولا تجدد سبل الانبناء النحوي والتركيبي.
ذلك أننا لو أقمنا مثل هذه المراجعة، لوجدنا حقيقة المصير "البائس" الذي فاز به الشعر الرومانسي في النقد العربي، إذ جرى التعامل معه بخفة وسرعة، أشبه بلحظة عديمة النفع في تاريخ الشعر بين التقليدية والحداثة، فيما هو بوابة الحداثة الأولى والعريضة، إذا جاز القول.
ويعود ذلك إلى حسابات متأخرة، قوامها النظر إلى الشعر وفق ما انتهى إليه، أي تدبير تاريخ جديد له يجعل مما وصل إليه الشعر في ستينات القرن المنصرم أساس التقويم الشعري. إلى هذا فإن النقد نظر إلى الشعر وفق أساسه العروضي في المقام الأول، وأهمل عداه في مسألة التحقق المتفاوت من بلوغ أو دخول القصيدة في مسارات التجديد المختلفة.
المراجعة لأزمة، إذن، وتدعونا إلى التأكد من وجود "مواعيد" مختلفة للتجديد: مواعيد مختلفة في كل بلد وبين البلدان العربية، ومواعيد مختلفة أو حظوظ متباينة من التجديد في هذا المستوى أو ذاك من مستويات القصيدة: لهذا نقول إن موعد 1947 نفسه، وهو الأقرب الينا، لا يمثل التجديد "الناجز"، على ما نعتقد، خاصة في قصيدة الملائكة الشهيرة، "الكوليرا"، الموضوعة في العام 1947، طالما انه لا يجرب سوى تغيرات عروضية، معروفة وسابقة عليه.
***
عنوان غير مسبوق
عبد العزيز السريّع
(الكويت)
نازك الملائكة.. اسم حفره الإبداع والتألق في ذاكرة الأمة ولغتها المعجزة..
لم تكن شاعرة رائدة ومجددة فقط بل كانت استاذة كبيرة تشرفت بدرس لم يكتمل على يديها في جامعة الكويت، كانت مع السياب عنوان مرحلة غير مسبوقة في تاريخ الشعر العربي.. بل الأدب العربي بكامله..
يا الله.. كم كانت مذهلة وعظيمة ورائعة.
نودع برحيلها مرحلة كانت فيها هي الحادي وخلفها كوكبة من الفرسان العظام.
إلى جنّات الخلد.. والعزاء لكل المريدين والشعر والشعراء.
***
أشجع الرائدات
محمد علي شمس الدين
(لبنان)
نازك الملائكة كانت من أشجع رائدات التاريخ في القصيدة العربية وقصائدها الأولى "الكوليرا" وقصائد الألم لفتت انتباه الشعراء، حتى ان نزار قباني قال في نقده لثلاث قصائد من الألم المنشورة في الآداب عام 1958 قال إن بين يدينا كنزاً اسمه نازك الملائكة.
عادت نازك فارتدت عن التجديد، على الرغم من انها كتبت كتاباً في النثر الحرّ يعتبر الأول في اللغة العربية.
هذا الارتداء حصدت نتيجته إهمالاً لها من جهة النقد الحديث وثم دخلت في غيبوبة من الحياة الاجتماعية والأدبية حتى اعتبرت أنها ماتت عدة مرات قبل أن تنتهي إلى الموت الحقيقي الأخير.
***
مشروع رؤيوي
شوقي بزيع
(لبنان)
اعتقد ان القيمة الفعلية لنازك الملائكة تتمثل في كون الحداثة عندها لم تكن مسألة عارضة أو خاضعة للمصادفة المحضة، إذ ان بعض الشعراء يمكن، عن طريق هذه المصادفة، وبتأثير الانفعال والتوتر، ان يكتبوا بأسلوب مختلف، أو ان يهتدوا إلى شكل مغاير للأشكال السائدة دون وعي منهم لما أنجزوه. ومن الممكن أن يكون هذا الحدث عارضاً في حياتهم. لكن بالنسبة إلى نازك الملائكة هو ان الحداثة عندها كانت مشروعاً رؤيوياً وصادراً عن سابق تصور وتصميم. يؤكد ذلك انها انفردت بين زميليها في الريادة، بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، بإصدارها كتاباً نقدياً لا يزال يشكل حتى اليوم مربعاً أساسياً وهاماً للتعرف إلى مشروع الحداثة وعناصرها الأسلوبية والفنية. النقطة الثانية الهامة هي أنها أسهمت في حروب "الاسترداد" التي مكّنت الأنوثة العربية من تأكيد دورها ومكانتها بالنسبة إلى اللغة المكتوبة. ذلك ان دور شهرزاد في "الف ليلة وليلة" اقتصر على عنصر السرد والمشافهة، في حين ان الذين دونوا الخطابات كانوا من الرجال. إذا كانت الخنساء وولادة بنت المستكفي وقليلات غيرهما قد اسهمن في كسر احتكار الرجل للغة الشعرية، بوجه خاص، فإن ذلك لم يمنع الشعر العربي من ان يكون ذكورياً، وأن يرتبط مفهوم الشعرية بمفهوم الفحولة من دون سواها من الصفات. هكذا جاءت نازك الملائكة لتؤنث الحداثة ولتكسر الحواجز بين الكتابة الذكورية والكتابة الانثوية، مفسحة الطريق لعشرات الشاعرات اللواتي أكملن الطريق من بعدها.
***
قالوا الحياة...
شوقي عبدالأمير
(العراق)
غيّب الموت أمس الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة بعد أن غَيَّبتْها من قبله حاضرتُنا الثقافية والشعرية بالأخص وظلّت في "كرنتينتها" القاهريّة رمزاً للقهر الجسماني والروحي والثقافي...
لا تستحق نازك الملائكة كُلَّ ما عانته وأعرفُ جيداً، عندما أعددتُ المختارات من شعرها لنشرها في "كتاب في جريدة" أنها كانت تكابدُ في جسدها كما في روحها كل أشكال الإقصاء والتهميش بالإضافة إلى التراجيديا العراقية التي تفجّرتْ في السنوات الأخيرة من حياتها، وقد أخبرني زوجها وابنها الكبير الذي سمّتهُ "بُراق" بأنها غير قادرة على الحديث إلى الآخرين وحتى إلى مجرد الالتقاء بهم...
تلك كانت عزلة الشاعرة نازك الملائكة، التي أشعّتْ بنصّها الشعري المتميز منذ منتصف القرن المنصرم وبنظرتها النقدية الثاقبة التي صارت منهجاً في الدراسات الحديثة للشعر وأخيراً بعزلتها حتى الموت.
ها هي اليوم ترفع شاهدةَ قبرها ذراعاً للاحتجاج على الوسط الثقافي الذي لا يُعنى إلاّ بالخيول المعدّة للسبق والمطهّمة بكل أشكال الرعاية المادية والسياسية ولم تكن لهُ حتى إطلالة المتذكّر على واحدة من أهم صروح الشعر العربي المعاصر.
وفي هذا الإطار لا بد من استثناء الرعاية والحفاوة الحقيقية التي قدّمها لها المجلس الأعلى للثقافة في مصر ممثلاً بالدكتور جابر عصفور الذي نشر ديوانها وقدم لها كل أشكال الاحتضان والدعم في أحلك ظروف حياتها.
ومن هنا فقد ماتت نازك مرّتين... إن يوم 20/6/2007 هو الموت الثاني بعد موتها الأول في هامش الحياة الشعرية. لكنه سيكون حالة التجسّد الأعلى لنجمة حقيقية إبتعدت عنّا لتضيء أكثر ولتشعّ أطول.
ماتت نازك التي كانت تقول:
"قالوا الحياة
هي لون عَيْنَي مَيْتِ
هي وقعُ خطو القاتلِ المتلفتِ
أيّامُها المتجعّدات
كالمعطف المسموم ينضحُ بالممات..".
***
في قلبها الحسرات
زاهي وهبي
(لبنان)
في القلب حسرات كثيرة، منها حسرة فقدان نازك الملائكة حين العراق غارق في دمائه ودموعه وكذلك فلسطين ولبنان، وقبل حسرة الفقدان، حسرة خاصة حيث أن المرض العضال حرمني متعة حوار الملائكة، التي كانت حاضرة دائماً في معظم حواراتي مع كتاب وشعراء من رفاق دربها ومن الذين لحقوا بها وبهم، لكن الحسرة الكبرى أن نازك الملائكة، وعلى الرغم من تداول إسمها في الوسطين الثقافي والإعلامي بقيت مظلومة على المستوى النقدي لأن الثقافة الذكورية حرمتها أسبقيتها في الريادة، وأهملت إنجازاتها فكأني بها غابت وفي قلبها الحسرات مجتمعة على بلاد لم يعرف رجالها أن يحافظوا عليها لا في النص ولا في السلوك.
تمضي نازك الملائكة الى عالم الملائكة حيث لا أجناس ولا أنواع، لا ذكورة ولا أنوثة بلا عالم من الأثير المطلق الصفاء والنقاء.
***
اللحظة التاريخية
اسكندر حبش
(لبنان)
من دون شك، لا نستطيع أن ننسى اللحظة التاريخية التي كتبت فيها نازك الملائكة أولى قصائدها، إذ أنها هذه اللحظة، هي التي تجعل منها اليوم، واحدة من رائدات الشعر العربي الحديث. لكن بعيدا عن ذلك، ما الذي يبقى اليوم من شعر هذه الشاعرة الرائدة، التي توضع في مصاف كبار زمنها؟
اختلف الجميع على اختيار اللحظة الأولى التي انطلقت فيها شرارة الشعر الحر، أكانت هي أم بدر شاكر السياب. بيد أن الجميع يتناسون، أن أمين الريحاني كان من أوائل الذين أشاروا إلى هذه الإشكالية في ديوانه "هُتاف الأودية" الصادر العام 1905، وبخاصة في مقدمته التي كتبها معتمدا فيها على شعر الأميركي والت ويتمان، أي أنه أشار إلى ضرورة التحديث قبل أهل مجلة "شعر"، وقبل أن يقرأوا سوزان برنار وتنظيراتها. من هنا، نجد أن هذا الامتياز التي يسبغ أحيانا على الملائكة، ليس في الواقع إلا هذا النوع من التهويم الذي يراد به تشويه تاريخانية ما، لأسباب لا أحد يعرفها. من هذا المنطلق أيضا، كيف يمكن لنا أن نقرأ جبران وغيره الكثيرين.
في أي حال، ربما كانت أسبقية الملائكة في أنها كانت من أوائل اللواتي أدخلن الرومانسية في الشعر العربي الحديث، لكن هل يكفي ذلك لتحتل كل هذه المكانة التي توضع فيها؟ برأيي الشخصي، أن الكثير من شعر الملائكة سيسقط مع مرور الزمن، هذا إن لم يبدأ، بمعنى، ما تشكل الملائكة حاليا في سجالات الشعر العربي الحديث؟
في أي حال، أن يغيب شاعر، لا بد أن يحزننا قليلا، لكن مع هذا، علينا فعلا أن نسأل عن شعره.
****
هم وجودي
جودت فخر الدين
(لبنان)
كانت نازك الملائكة ركناً أساسياً في حركة الشعر العربي الحديث عند انطلاقتها. واليوم لا تذكر هذه الانطلاقة إلا ونتذكر نازك الملائكة إلى جانب السياب والبياتي وغيرهما.
بعد تلك الانطلاقة، ابتعدت نازك قليلاً أو كثيراً عن المشهد الشعري ولكنها حافظت دوماً على كونها جزءاً أساسياً من حركة الشعر التي باتت اليوم في حالة من الفوضى والتشتت، ولكنها مفتوحة على مختلف الاحتمالات والآفاق.
يمكننا ان نذكر أيضاً لنازك الملائكة انها ساهمت على نحو ما، في الحركة النقدية العربية الحديثة. فبصرف النظر عن آرائها التي عبّرت عنها في كتابها المعروف (قضايا الشعر المعاصر)، نستطيع القول إن الشعر كان عندها هماً وجودياً دفعها إلى الاضطلاع بقضايا التجديد والحداثة وما يتعلق بهما من تأمل ومراجعة دائمين.
***
جَدّة الشعر الحديث
غسان جواد
(لبنان)
نازك الملائكة خَسارة للشعر العربي الحديث عموماً، بوصفها رائدة ويمكن اعتبارها "جدّة" الشعر الحديث وإذا أردنا ان ننظر إلى تجربتها بشكل عام فقد ادخلت تجديداً على الشعر من حيث الشكل والمضمون والصورة الشعرية وهي أول من كتب قصيدة التفعيلة وهناك خلاف تاريخي حول قصيدة "الكوليرا" والبعض يقول انها سبقت قصيدة بدر شاكر السيّاب ببضعة أشهر في الكتابة التفعيلية. وهناك ايضاً ملاحظة انها توقفت عن تحديث تجربتها منذ وقت طويل ولكنها بقيت رائدة، وبقيت اسماً لأبرز النساء المجددات ونحن نعرف كونها امرأة مجددة في ذلك الزمن، وهذا وحده كاف لنقول انها وضعت بصمتها على منتصف القرن العشرين.
***
شهادة كبيرة على عصر الظلام
سامر أبو هواش
(فلسطين/ لبنان)
لطالما اقترن اسم الشاعرة الرائدة نازك الملائكة باسم رائد آخر هو بدر شاكر السياب. اقتران بدأ بسجال حول الريادة، وأظن أنه بمرور السنوات، تحول إلى نوع من الشراكة، وانتفى السجال القديم العقيم، ليصبح لكل منهما، كما لغيرهما، حصته ودوره في الشكل الجديد وقتذاك، أي الشعر الحرّ. اسم الملائكة في حدّ ذاته يمنح سامعه انطباعاً تاريخياً، تأسيسياً، كلاسيكياً، بالمعنى الإيجابي للكلمة، ولعلها واحدة من المرات القليلة التي يتحول فيها الشاعر، في حياته وليس بعد موته، اسماً كلاسيكياً، يلخّص، مع آخرين طبعاً، مرحلة واتجاهاً وتياراً شعرياً لعب دوراً أساسياً، في إطلاق الحداثة الشعرية العربية، وما تطورت إليه لاحقاً عبر قصيدة النثر.
أصرت الملائكة على أن تعيش في عزلة كاملة، وكانت تحب العزلة وتمتدحها، وتعتبرها شرطاً إنسانياً أساسياً، بعد أن "أضعت الكثير من السنوات وأنا أحاول أن أكون اجتماعية". وإذ يقرأ المرء اليوم سردها لسيرتها الذاتية، التي حاولت أن تكتبها على شكل قصة، كما على شكل مذكرات، يفاجأ بأن هذه الذاكرة مسكونة دائماً بأمرين اثنين: المكان العراقي، أي بغداد حيث ولدت ونشأت ودرست، والشعر. وقد ظلت مسكونة بهذين العنصرين أو الشغفين، حتى بعد غيابها وابتعادها القسري عن بلدها، وعن ساحة الشعر بالمعنى اليومي والحثيث، مكتفية ربما بعزلتها الليلية التي اشتهرت بها، وبذكريات حميمة عن بدايات ثورتها الشعرية، بين بغداد وبيروت، وربما مكتفية أيضاً بميراث تدرك مدى أهميته، كرائدة تأسيسية، حملت قبل الشكل، في قصيدتها الشهيرة "الكوليرا"، كما في قصائد أخرى كثيرة، نفَساً ونبضاً مختلفين، إلى الشعر العربي المعاصر. أحد الدروس التي يتعلمها الواحد من هذه الشاعرة المجدّدة هو تجربتها في كتابة هذه القصيدة تحديداً، إذ كتبتها أولاً بأسلوب الشطرين التقليدي، فلم تجد الكلمات والصور التي خرجت بها معبرة بما فيه الكفاية عما كان يجيش في نفسها من حزن وألم وغضب وجودي على الموت، وعلى شروط الحياة القاسية على حدّ سواء. فأعادت كتابة القصيدة ثانية، بأسلوب الشطرين أيضاً، لتواجه بخيبة أخرى. وفي نهاية الأمر كتبت أو بالأحرى "فجّرت" القصيدة على الشكل الذي خرجت به، أي الشعر الحرّ، المتفلّت من الأوزان التقليدية، فالشكل جاء إذن تلبية لحاجة تعبيرية ملحّة، ولم يكن مجرد ترف تجريبي أو رغبة بالتحدي المجاني. هكذا، بالنسبة إليّ، كأحد شعراء قصيدة النثر، يمكنني أن أجد في تجربة الملائكة دفاعاً ضرورياً عن تجربة قصيدة النثر التي ظهرت لاحقاً، أيضاً كحاجة ضرورية، للتعبير عن مشاعر وأفكار لم تعد تجد، سواء في القصيدة العمودية أم الحرة، شكلاً كافياً.
تجربة نازك الملائكة برمتها تقول إن الشعر في النهاية، بأشكاله وأنماطه وتياراته، هو ابن الحياة. وإذ يقرأ المرء اليوم أعمالها التي كتب معظمها قبل أربعة عقود على الأقل، فإنه يعثر على آثار السواد الذي يعيشه العراق والمنطقة اليوم، سواد تاريخي مزمن، أمسكت الملائكة بعصبه، وفجرت غضبها منه، فما كان انسحابها إلى عزلة منزلها، قبل الدخول في المرض والموت (وسط لامبالاة كاملة من "الثقافة العربية")، ليغيّب صوتها الجارح، أو شهادتها الشعرية الكبيرة على عصر الظلام الذي لا نزال نعيش فيه.
***
اسم لا ينسى
طارق آل ناصرالدين
(فلسطين)
ربما يكون لقب الملائكة التي حملته نازك يحدّد موقعها في الشعر العربي المعاصر. يكفي أنها من أوائل الطفرة الشعرية الحقيقية في عصرنا، وأن تكون نازك إحدى اثنين في السبق الى القصيدة الحرة الموزونة لتصبح اسماً لا ينسى.
نازك الملائكة كتبت الشعر لأنها شاعرة، وآمنت بالتطور لأنها بنت زمانها ومكانها. عربية في النفس، شاعرة في المطلق. ننحني لها كما ينحني التلامذة أمام الأساتذة الكبار.
***
غياب العراق القديم
شارل شهوان
(لبنان)
محزن رحيل الشعراء ولعله أعمق حزناً وإثارة للأسى رحيلهم في المنافي بعيداً عن بلادهم والديار والمنزل الأول والأزقة الخاصة ونسمات العشب الأول، ورحيل الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة مخضّب بالتأكيد بأرجواني الملحمة المذبحة المفتوحة على أبواب الجحيم في بلادها في العراق المنحور كل يوم وكل لحظة والمنهوبة بوحشية.
لغياب الملائكة أكثر من معنى وأبعد من مجرد نهاية موحشة لشاعرة كانت بمثابة الرمز والذروة لثقافة ساطعة وجريئة استطاعت تبوؤ الطليعة في الشعر وغيره. وساهمت بقوة في تبديل سمات المستقبل الشعري العربي ودفعته الى الحداثة مثبتة أسسه بصلب وإسمنت الثقافة والطليعية والانفتاح والموهبة البارعة وبالمشاعر والأحاسيس.
يشبه غياب الشاعرة الملائكة غياب العراق القديم أو لعله العراق الوحيد الذي نحبه ونهجس عودته الصعبة الشاقة. عراق الشعر والشعراء عراق النرجسية الشاعرة لا عراق الوحشية والغرائزية، عراق التعبير لا عراق التدمير. غياب الملائكة هو بالتأكيد في غير احتماله غياب صورة العراق القديم واندحار معلم أساسي تاريخي. ألا وهو العراق الشاعر، العراق الذي نزح منه شعراؤه منذ زمن مذ أمعن الصدام والصداميون في قمع الأرواح والأفكار والحياة ونحروا الحرية والأحرار بظلامية فاقت الانفجارات الوافدة من محبة الجوار الكالحة. يعنينا ما يعنيه غياب الشاعرة الملائكة ويشبه غيابنا ويومياتنا وانهيار حالنا يعنينا ويشبه كذلك اندحار آمالنا ولبناننا المندفع بهمة بعض أهله وأشقائه نحو الخراب الأخير. كان هناك عراق وربما سيكون أنه كان هناك لبنان. مخجل أنه ليس بالوسع الاحتفاء، أجل الاحتفاء بالملائكة وبمساهمتها الرائعة النادرة في زمن غياب الأوطان واضمحلالها، وقد أمسينا كلنا عراقيين بكائين رغماً عنا. نازك الملائكة اسم يرحل ولا يغيب كما النهرين والرافدين وكما الشعر الحقيقي الساكن أبداً في الفضاء في سماء الحرية، حيث الوطن الدائم.
***
صورتان
ماهر شرف الدين
(لبنان)
كنا في مجلة "نقد" قد اتفقنا على ان يكون العدد الرابع مخصصاً لتجربة نازك الملائكة. وبما أننا نضع في آخر كل عدد من المجلة غلاف العدد الذي يليه فقد جرى نقاش بيننا في أسرة التحرير حول الصورة التي علينا اعتمادها في الغلاف:
صورة لنازك الشابة، أم صورة لنازك في أواخر أيامها؟
اليوم، وأنا أقرأ خبر وفاة تلك الشاعرة المتمردة التي قاتلت في سبيل إثبات انها كانت السابقة في كتابة القصيدة الحرة ثم قاتلت لإثبات بطلان مثل هذا النوع من الشعر والحداثة.
اقتنعت أن علينا اعتماد صورة نازك الشابة.. نازك الجميلة.
***
ألم تمت بعد؟
كمال عبد الحميد
(مصر)
عندما بادرت أحد أصدقائي صباحاً لأخبره برحيل نازك الملائكة، أجابني بسؤال: "ألم تمت بعد؟!"، ولم يكن سؤال صديقي الذي هجر الكتابة وجنونها منذ زمن بعيد إلا تعبيراً درامياً عن الصمت الذي اختارته الرائدة الراحلة، والعزلة التي فرضتها على نفسها بعد أن اختارت القاهرة موطناً وملاذاً حين خرجت من عراقها حزينة على حاله وأحواله، ومع عزلتها وصمتها وظنون كثيرين بأنها رحلت منذ زمن، ولأن بعض الظن إثم، فإن الآثام التي نرتكبها عربياً في حق روادنا وحق مبدعينا ستظل تلف رقابنا بالعار، ومع رحيل الشاعرة الرائدة نازك الملائكة أشعر بالمرارة لأن آخر ما وصل اليها من أخبار ربما لا يبعث على التفاؤل في الوطن المحتل.
نازك جزء من ضميرنا وثقافتنا وفرحنا كجيل فتح عينيه فوجدها مع غيرها تضيء شموعاً في طريق أبهى.
***************************
ملف المستقبل
الحزن يعم الأوساط الثقافية في العراق
بغداد علي البغدادي
فقد العراق والوطن العربي واحدة من ابرز الشاعرات التي امتدت مسيرة ابداعها لنحو 60 عاما الا وهي الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة التي توفيت في القاهرة عن عمر ناهز 86 عاما اثر مرض لم يمهلها طويلا ونعت الاوساط الثقافية العراقية الشاعرة العراقية الكبيرة فيما امر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي باتخاذ اجراءات لنقل الجثمان وموارته الثرى في بغداد.
وتوفيت الشاعرة العراقية في القاهرة الليلة الماضية عن عمر يناهز الرابعة والثمانين في احد المستشفيات بوسط القاهرة اثر مرض عضال.
ودعا رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي القائم بالأعمال العراقي في القاهرة الى المشاركة في مراسيم التشييع والإستعداد لاتخاذ الإجراءات لنقل جثمان الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة التى توفيت بالقاهرة الليلة قبل الماضية لدفنها فى بغداد.
وقال بيان للحكومة العراقية امس إن "يعزي رئيس الوزراء اسرة الفقيدة ابنة العراق الغالية والشعراء والمثقفين كافة، فقد تعلقت رحمها الله بحب الوطن وترعرعت في احضان اسرة كريمة تحتفي بالثقافة حتى غدت من ابرز مجددي الشعر العربي".
ونعى اتحاد الادباء والكتاب في العراق، رائدة الشعر الحديث الشاعرة العراقية نازك الملائكة.
واعلن الناقد علي الفواز امين عام الشؤون الثقافية في اتحاد الادباء والكتاب في العراق أن الاتحاد سيقيم في بغداد تأبينا كبيرا لها كما سيحتفي بها نادي الشعر في اتحاد الادباء في العراق.
وعلق اتحاد الادباء على جدار مبناه في ساحة الاندلس وسط العاصمة بغداد لافتة تأبيينة كبيرة لفتت انظار المارة هناك نعى فيها الشاعرة وكان اتحاد الادباء والكتاب في العراق قد خصص منتدى اطلق عليه اسم منتدى نازك الملائكة عمل طوال الاشهر الماضية على تفعيل حركة الشعر والنقد في العراق.