ملف الحياة
نازك الملائكة رائدة الشعر العربي الحر
ترحل عن 84 عاماً في القاهرة منفاها الاختياري
غيّب الموت الشاعرة العراقية نازك الملائكة في القاهرة ليل الأربعاء الفائت عن عمر يناهز 84 سنة. وهي من رواد الشعر العربي الحديث، وساهمت في إرساء ثورة الشعر الحر مع الشعراء الرواد من أمثال بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وسواهما.
ولدت في بغداد عام 1923، ونشأت في بيت علمٍ وأدب، في رعاية أمها الشاعرة سلمى عبدالرزاق أم نزار الملائكة وأبيها الأديب الباحث صادق الملائكة، فتربَّت على الدعة وهُيئت لها أسباب الثقافة والأدب. وما أن أكملت دراستها الثانوية حتى انتقلت الى دار المعلمين العالية وتخرجت فيها عام 1944 بدرجة امتياز. ثم دخلت معهد الفنون الجميلة وتخرجت في قسم الموسيقى عام 1949. وفي عام 1959 حصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكنسن في الولايات المتحدة الأميركية. وعينت أستاذة في جامعة بغداد وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت.
عاشت في القاهرة منذ 1990 في عزلة اختيارية.
من أعمالها الشعرية: عاشقة الليل (1947)، شظايا ورماد (1949)، قرارة الموجة (1957)، شجرة القمر (1965)، مأساة الحياة وأغنية للإنسان (1977)، للصلاة والثورة (1978)، يغير ألوانه البحر، الأعمال الكاملة – مجلدان – (طبعات عدة).
ومن أعمالها النقدية والنثرية: قضايا الشعر المعاصر، التجزيئية في المجتمع العربي، الصومعة والشرفة الحمراء، سيكولوجية الشعر.
كتبت عنها دراسات عدة ورسائل جامعية في جامعات عربية وغربية.
*****
نازك الملائكة أحدثت ثورة الشعر الحر وغرقت في الصمت
عبده وازن
(لبنان)
رحلت الشاعرة العراقية نازك الملائكة ليل الأربعاء - الخميس عن أربعة وثمانين عاماً في القاهرة التي اختارتها بدءاً من العام 1990 منفى طوعياً، بعدما ضاقت في وجهها ظروف الحياة في بغداد. جاءت الى القاهرة مريضة من جراء الاكتئاب الذي ألمّ بها ولزمت منزلها ثم الفراش طوال سنوات. ولم تكن تقابل سوى الأقارب، ثم اشتد عليها المرض فانقطعت عن العالم، حتى ظن الكثيرون أنها رحلت. والضجة التي أثيرت اخيراً حول معاناتها المادية هي التي أعادت اسمها الى الذاكرة فتذكّر الجميع انها ما زالت حية.
لكن نازك الملائكة، الشاعرة الرائدة والناقدة يصعب أن تُنسى لا سيما بعدما دخلت «تاريخ» الشعر الحديث من باب الريادة وشكّلت دواوينها التي تناهز التسعة «تراثاً» حداثياً مستقلاً بذاته. ولا تُنسى ابداً المعركة التي دارت بينها وبين زميلها في دار المعلمين العليا في بغداد الشاعر بدر شاكر السياب حول القصيدة الحرة الأولى. وكانت تعتبر انها السباقة الى كتابتها عبر قصيدتها «الكوليرا» التي نشرتها مجلة «العروبة» البيروتية لصاحبها الشاعر اللبناني محمد علي الحوماني في 1/12/1947، فيما كان السياب الذي يصغرها ثلاث سنوات يقول ان قصيدته الحرة «هل كان حباً؟» ظهرت في ديوانه الأول «أزهار ذابلة» الصادر في القاهرة منتصف العام 1947. حينذاك دار سجال واسع حول هذه الريادة شمل العالم العربي وشارك فيه ايضاً شعراء آخرون قالوا انهم سبّاقون الى كتابة الشعر الحر. إلا ان نازك ما لبثت ان اعترفت لاحقاً عندما احترفت «مهنة» النقد أن بضعة شعراء كتبوا القصيدة الحرة في مطلع القرن الماضي.
لا تكمن اهمية الدور الذي أدته نازك الملائكة في حركة الشعر الحديث في تجديدها الشكلي أو الإيقاعي فحسب، على رغم الثورة العروضية التي أحدثتها، منطلقة من إحساسها الموسيقي العميق، هي التي درست الموسيقى في كلية الفنون واحترفت العزف على العود. بل ان ما يميز شعرها ايضاً هو انفتاحه على قضايا وجودية وشؤون فلسفية ذات بعد وجداني، وعلى أسئلة الحياة والموت. ولم يكن مفاجئاً ان يحمل ديوانها الأول عنواناً رومنطيقياً هو «عاشقة الليل» (1947)، فالليل كان أنيسها هي الشاعرة المتبرّمة بالحياة المفعمة بالألم والإبهام، والمتشائمة والعاجزة عن استيعاب المآسي البشرية. ولعل ديوانها الثاني «شظايا ورماد» (1949) رسّخ هذا الطابع الكئيب والسوداوي الذي وسم قصائدها الأولى، وقد تضمن قصيدتها «الكوليرا» التي كانت كتبتها كرد فعل إزاء مأساة مرض الكوليرا الذي فتك العام 1947 بأهل الريف المصري. إلا ان الشاعرة لن تتوانى في ديوان مثل «شجرة القمر» الصادر العام 1968 عن خوض التجربة السياسية ناظمة قصائد حماسية عن فلسطين والوحدة العربية والثورة العراقية التي عرفت بثورة الثالث عشر من تموز (يوليو) 1958. وبعد هذه المرحلة تستعيد الشاعرة إيمانها في مواجهة أحوال الكآبة والتشاؤم والقلق، وتكتب خلال شهر رمضان 1974 قصيدتها الإسلامية الشهيرة «زنابق صوفية للرسول» وقد ضمّها ديوانها «يغيّر ألوانه البحر».
يصعب حقاً اختصار عالم نازك الملائكة والمراحل التي اجتازتها نظراً الى رحابة هذا العالم وتداخل تلك المراحل. واللافت في مسارها الشعري الحداثي انها لم تتخلّ عن القصيدة العمودية على نحو مطلق، فمعظم دواوينها عرفت حالاً من «التعايش» بين الشعر الحر القائم على نظام التفعيلة والشعر الكلاسيكي القائم على وحدة البيت، لكنها تظل شاعرة التجديد، في الإيقاع والبنية.
اما نازك الناقدة فكانت الوجه الآخر للشاعرة: ناقدة صارمة ذات منهج شبه أكاديمي، تناقش وتساجل وترفض وتنتقد بشدة أحياناً. وكتابها الشهير «قضايا الشعر المعاصر» ما برح واحداً من المراجع المهمة التي لا بد من العودة إليها لقراءة النظريات والمفاهيم التي رافقت ثورة الشعر الحر.
رحلت نازك الملائكة بعد سنوات طويلة من المرض والعزلة، رحلت كما لم تتمنّ يوماً، بعيداً من بغداد مدينتها التي حملتها في القلب وصانتها من عبث العابثين ومن الجرائم التي شوهتها وما زالت.
****
الصوت الرومنطيقي الآخر
شوقي عبدالأمير
(لبنان)
رحلت أمس نازك الملائكة، الشاعرة الرومنطيقية الحقيقيّة في أدبنا العربي... كانت نازك الملائكة نموذجاً متفرّداً لما يُعرف بالرومنطيقية في الآداب العالميّة والتي كان جلُّ عطائها الشعري متماهياً بالروح ذات الوهج «الملائكيّ» والنغمات التي تُذكّر ب «ووردزورث» و «شيلر» و «بايرون» و «لامارتين» في الشعر العالمي.
أولئك هم آباؤها ولا أبوّة لها في الشعر العربي. كما أن نازك الملائكة لم يكن لها أبناء في شعرنا المعاصر، هكذا فقد أدار شعر الحداثة العربي ظهره هو الآخر عن تجربتها المتميزة وظلّت حاضرة ربما في نصّها النقدي.
ترى هل هو زهدُها الشخصي في إرتقاء المنابر وتعبئة الحشود والمريدين، أم كونها إمرأة، أم أنّ السبب يكمن في خصوصيّة نصّها الشعري الذي لا يقبل التقليد من ناحية ويمتاز بحصانة أدبيّة قَلَّ نظيرُها.
هي «عاشقة الليل» التي عاشت في «قرارة الموجة»، تستفيء في ظل «شجرة القمر»، لتكتب «مأساة الحياة وأغنية الإنسان» قصائد وأغاني، مقاطع ملتهبة «شظايا ورماد». تواصل الحياة والعمل بعُلوٍّ وتجرّد وكأنها في سيرورة «للصلاة والثورة». هكذا تمضي في مسيرتها الشعرية الحياتية، في هامشها المضيء اللامتناهي، في منطقة النصّ الشعري الخالص حتى «يغير ألوانه البحرُ».
ليست أهمية نازك الملائكة كما اعتاد النقّاد والجمهور الحديث عنها في قصيدة «الكوليرا» عام 1947 في كونها أول نص شعري «حر» ولا في نقدها الأدبي الذي تمثل في كتابها المعروف ولكن في كونها رائدة الرومانطيقية الشعرية العربية بمعناها الفلسفي والرؤيوي فهي الأولى التي خلطت حلم الموت بالحياة في نسيج رؤيوي لغوي موسيقي لم يعرفه قط شعرنا العربي المعاصر. تلك حداثتها التي لم تتكرر.
أما نازك المرأة الشاعرة فقد رحلت عن الحياة الثقافية قبل رحيل جسدها، وكانت تضيء في عزلتها «المقهورة» وليست «القاهرية» التي إختارتها ملجأً صامتاً حتى الشهادة:
«أين أمشي؟ مَلَلْتُ الدروب،
العدوّ الخفيّ اللجوج
لم يزل يقتفي خطواتي، فأين الهروب؟»
لعلها اليوم وجدت طريق الخلاص.
الكلمات بين قويسات هي عناوين دواوينها الشعرية.
***
أجمل السجالات وأرصنها
قاسم حداد
(البحرين)
كانت قد افتتحت أكثر السجالات النقدية جدية في تاريخ الشعر العربي المعاصر. فبعدها، سوف نصادف نادراً سجالات على تلك الدرجة من الجدية والرصانة. فذلك الحوار الساخن، حول تجديد القصيدة العربية، لم يكن يصدر سوى عن رغبة معرفية صادقة لفهم ما كان يحدث على صعيد التحولات الجذرية في الكتابة الشعرية العربية.
وفي كتابها «قضايا الشعر المعاصر» كرست اجتهاداً نقدياً لا يمكن، في النقاش الرصين تفاديه، ولعل في المعارضات (التقنية) التي ميزت اجتهاد كتابها دليل على أن للرأي المحافظ، آنذاك، الرصيد الكافي لاحترام شرط الحوار الثقافي الذي يغري بالسجال.
ساعتها، والحماسة النقدية على أشدها، نشأنا على مثل ذلك النقاش البالغ التنوع، في الاختلاف والشغف بالاكتشاف. وأخذنا درس نازك النقدي مأخذ الجد فعلاً. وعلى رغم حمأة الانحيازات الأيدلوجية التي عملت على تجيير بعض تلك الاجتهادات، إلا أنني استفدت من مسافتي الجغرافية لكي أبتكر مسافة نقدية تساعدني على الإصغاء لمختلف تلك الاجتهادات، وربما شغف جيلي بالتجديد لمس في منافحة نازك الملائكة عن (شعريتها) شكلاً رومانسياً تقتضي الحكمة عدم التفريط به.
وأذكر أنني فيما كنت اقرأ فصول كتابها، أبتكر محاولاتي النقدية متوهماً أنني أستعد لصياغة شخصيتي النقدية على شاكلتها، ظناً بأن قدر الشاعر المعاصر هو أن يكون ناقداً أيضاً، لكي ينافح عن ما يكتبه وما يؤمن به من شعر.
ونحن نودع واحدة من أهم التجارب النقدية التي رافقت خطوات التحولات الشعرية المعاصرة في الثقافة العربية، لعلنا نجد الفسحة اللازمة للتوقف وتأمل كم نحن بحاجة ماسة لضرب من السجال النقدي والثقافي الراقي برصانته ومستواه المعرفي. ونحن في هذا المناخ الذي يتفسخ على غير صعيد، من دون أن نستثني الأخلاق الثقافية.
****
وجه تاريخي
أحمد عبدالمعطي حجازي
(مصر)
نازك الملائكة وجه تاريخي من وجوه الشعر العربي، وإبداع سوف تظل قيمته ثابتة على الأيام، ونازك الملائكة لم تكن مجرد شاعرة ولم ترض بالمكان المقدر للشاعرة العربية، وهو في الغالب ليس المكان الأول.
وجهود نازك الملائكة في الحركة الشعرية العربية جهود فعالة مؤثرة في سلم الشاعرية، ونستطيع أن نقول إنها مغيرة، وحتى زميلاتها المعاصرات على أهمية بعضهن لم يبلغن شأوها لا في الشعر ولا في التفكير للشعر ولا في نقد الشعر.
وفي السنوات الماضية توقفت جهودها وللأسف أيضاً أصبحت الحياة الأدبية العربية تسيطر عليها قوانين التجارة والذي يملك الأدوات التي يفرض بها نفسه هو الآن في المقدمة، أما الذين يكتفون بعملهم ويلوذون بالإنتاج وينأون بأنفسهم عن المضاربات تنساهم الحياة الأدبية التي أصبحت غير عادلة وغير وفية وفاقدة للذاكرة، ونازك الملائكة انقطعت عن الظهور والإنتاج منذ أكثر من 20 سنة.
وفي مؤتمر الشعر الذي عقدناه في مصر في شباط (فبراير) الماضي اقترحت أن تعطى الجائزة لنازك الملائكة لكن الاتجاهات الأخرى تغلبت، ولو كانت الجائزة ذهبت إليها لكان هذا مكافأة بسيطة واعتراف بدورها وعملها لكن أنا متأكد أن الأيام المقبلة ستنصف نازك الملائكة.
*****
شاعرة تقيم في اللغة
أدونيس
(سوريا)
ترحل نازك الملائكة رحلتها الأخيرة كي تقيم في اللغة. إشارة أخرى الى أن قومها العرب الذين أحبتهم، ودافعت عن تراثهم، لا مكان لهم إلا في اللغة. كانت ترثي لبعضهم وهم الكثرة الكاثرة، لإصرارهم على تحويل اللغة الى دبابات وطائرات وألغام وقنابل. الى قبائل من الحديد حيناً، ومن الورق المقوى، حيناً آخر. وكانت تتعاطف وتتضامن مع بعضهم، القلة القليلة، الذين كانوا يحوّلون اللغة الى توهّم، عارفة انه ليست لتلك الكثرة الكاثرة غير الكارثة وغير الدم والانقاض. كانت تعرف كذلك أن التاريخ يفتح في أحضانه لأولئك القلة زاوية، ولو صغيرة وهامشية.
نازك الملائكة تدخل الآن الى هذه الزاوية الى جانب الراحلين السابقين. تدخل، تاركة وراءها المشهد العربي نعشاً يتحرك من المحيط الى الخليج، تحت قُبّة هائلة من الغُبار هي ديار الاسلام: نعشاً راقصاً.
وقد أمضت نازك الملائكة سنواتها الأخيرة منزوية، تكاد أن تُطبّق أجفانها لكي لا ترى هذا النعش – المشهد، فيما كانت توغل، شعرياً، في توهم يكسر الجسد الذي يربطها بهذا الواقع. هذا الإيغال هو أجمل ما في شعرها، وهو الأبقى.
عرفت نازك الملائكة في بيروت. وكانت بيننا خلافات، لكنها كانت عالية، وبقيت عالية في سماء الأخوة الشعرية. لقد فجعتها وخانتها قضايا السياسة. غير أنها، هي، لم تخن نفسها، ولم تخن قضية الشعر.
****
المالكي دعا الى نقل الجثمان الى بغداد لكنها دفنت في القاهرة بحسب وصيتها
علي عطا
وعلا الشافعي
شيعت القاهرة ظهر أمس الشاعرة العراقية نازك الملائكة من مسجد الأميرة عين الحياة المعروف شعبياً باسم جامع الشيخ كشك في القاهرة، وتقدم المشيعين الكاتب فخري كريم ممثلاً رئيس الجمهورية العراقية، وكان في مقدم المشيعين مثقفون مصريون كثيرون من مثل رئيس المركز القومي للترجمة الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة جابر عصفور والأمين العام الحالي للمجلس نفسه علي أبو شادي والشاعر حلمي سالم وسواهم. وتوجه موكب الجنازة عقب الصلاة على الجثمان إلى مقبرة الأسرة في مدينة 6 أكتوبر جنوب غربي القاهرة حيث دفنت الملائكة إلى جوار زوجها الراحل الدكتور عبد الهادي محبوبة بناء على وصيتها.
وقال الكاتب والباحث العراقي صادق الطائي ل «الحياة» إن قنصل العراق في القاهرة نزار مرجان أبلغ أسرة الملائكة أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أبدى الاستعداد لنقل جثمان نازك الملائكة إلى العراق لتدفن في وطنها، إلا أن نجلها البراق عبد الهادي أكد له أن لا بد من تنفيذ وصية والدته. وكشف الطائي أن الملائكة نقلت مساء أول من أمس إلى مستشفى قريب من شقتها في ضاحية حدائق القبة شرق القاهرة بعد إصابتها بأزمة تنفسية، لكن المنية وافتها بعد نصف ساعة من نقلها إلى المستشفى، وجاء في التقرير الطبي أن الوفاة نجمت عن هبوط مفاجئ في الدورة الدموية.
ونقلت فضائية «العراقية» الرسمية مراسم التشييع والدفن على الهواء مباشرة، وقررت العائلة إقامة مجلس للعزاء في قاعة «العلم والإيمان» في شارع مصر والسودان القريب من منزل الراحلة مساء غد السبت. وكانت الملائكة وزوجها غادرا العراق إلى الاردن في 1995 لأسباب صحية، مشيراً إلى أن ظروف الحصار حالت دون تلقيهما العلاج اللازم من أمراض ترتبط عادة بالتقدم في السن، ثم توجها إلى مصر في 1998 وفي العام 2000 غيب الموت عبد الهادي محبوبة عن عمر يناهز الخامسة والثمانين.
وخلال تشييع الجنازة قال الدكتور جابر عصفور: «إن نازك الملائكة هي أول شاعرة تساهم في تأسيس القصيدة العربية الحديثة وتدافع عنها نظرياً وجمالياً. فقدنا شاعرة لا وجود لأمثالها الآن في العالم العربي ويصعب أن توجد شاعرة تعوض مكانتها في القريب المنظور. كانت نازك الملائكة من أصدق وأنبل الأصوات الشعرية منذ العصر الجاهلي وإلى الآن».
*****
رائدة الحوار مع الذات والعالم
فاطمة المحسن
(العراق/لندن)
طوت نازك الملائكة بصمتها صفحة من صفحات الأدب العربي، حيث بدت المرأة أكبر من مشروع لتدوين العواطف والمظالم. وكان ظهورها في أربعينات القرن المنصرم وفي العراق على وجه التحديد، ثمار النهضة التي أضحت دانية القطوف بعد أزيد من ثلاثة عقود تغيرت فيها القيم والعادات والأفكار، وقادت فيها الطبقة الوسطى المجتمع في محاوره الحساسة: السلطة والثقافة.
كان وقتها وقت الشعر في العالم العربي، ولذا غدت نازك شاعرة، ولو قيض لها ان تعيش في عصر آخر لما كتبت الشعر، ولخاضت غمار الأفكار التي جادلت فيها على غير صعيد. كانت القصيدة بالنسبة لنازك ذريعة للحوار مع الذات والآخرين، فهي بنزوعها الفرداني وحبها للجدل العقلي، وقفت في عالم تشكك فيه بقواعد اللعبة الشعرية إن لم ترتبط بفكرة المعاصرة، فهي لا تقر بالموهبة وسيلة وحيدة لنجاح الشاعر، بل ترى في قدرة الشاعر على فهم عصره أساس انبثاق الحداثة. تكتب الملائكة حول شعر ايليا أبي ماضي معرّفة التجديد: «الشاعر المجدد هو ذلك الذي يقدم في شعره وجهة نظر جديدة، تحدد علاقات لم تؤلف سابقاً بين القصيدة والشاعر من جهة، والقصيدة والعصر كله من جهة أخرى».
تولت نازك الدفاع عن الشعر الحر من منطلقات علاقتها الوثيقة بالتراث واللغة العربية حيث لم يضارعها زملاؤها من الرواد، كما أضافت دراستها في أميركا على عدد من نقاد الحداثة، تطوير ثقافتها في المجالين، وكان مشروعها يقوم على فحص النتاج الشعري والبحث عن قاعدة أساسية ومنطقية لتشكله. وبصرف النظر عن نتائج البحوث التي كتبتها والتي اتسمت بعضها بالتشبث بالأصول العروضية على نحو صارم، غير انها من جهة أخرى حاولت فيما لم يحاوله غيرها من نزوع الى غربلة وقراءة مكون القصيدة الحديثة بنية لغوية وموسيقية.
عمر نازك الأدبي أقصر من حياتها التي أورثتها حساسية مفرطة إزاء المحيط وأدت بها الى مرضها النفسي في وقت مبكر، فنازك التي نشأت لعائلة مثقفين، ساعدتها العائلة على ان تمتلك صوتها الخاص حيث الابتكار يعني طريقة جديدة في التفكير. ونازك التي تعلّمت العود والتمثيل في بداية الأربعينات عندما كانت طالبة في دار المعلمين العالية، كانت تطمح الى دورة حيوات أكبر من عمر امرأة، ولكن الجانب المحافظ في تلك العائلة خلّف لها رهاباً من العالم، والمزيد من الانكفاء على الذات. ولعل في سيرة نازك الملائكة ما يذكرنا بمصير الكثير من المبدعات اللواتي تواشج إبداعهن مع مرض الاكتئاب ورفض الحياة.
كتبت نازك النقد وحاضرت في الشأن الفكري والسياسي وقضايا النساء، ولكنها أيضاً كتبت القصة، ومجموعتها القصصية سيرة متخيلة لحياتها، تلك السيرة التي تشف عن منزع صوفي وأرواحية عالية، فهي تتواصل مع الأشياء والنباتات وحتى الشخصيات التاريخية عابرة حلم اليقظة الى عالم يجعل الواقع ظلاً له، وسنرى هذا ينعكس في خيارات ترجمتها للشعراء الذين كان بينهم جون دن شاعر الميتافيزيقيا الأقدم. وفي واحدة من قصصها تتحدث عن بيتهم «هذا البيت الكبير المتمادي في القدم، بزواياه المظلمة، وأقبائه وأواوينه. هذا البيت الذي يزرع الكآبة في نفسها دون أن تشخّص مبعثها». كتبت حياة شرارة الأديبة العراقية التي انتحرت، سيرة نازك، وكانت لها فرصة التحاور معها حيث تحدثت عن هذا البيت الذي حملته نازك في أعماقها قلقاً مقيماً تجهل سره.
كان المثل الأعلى يسكنها وبحثها عن الكمال يقض مضجعها، لذا اختصرت التواريخ كلها في رحلتها الى المستقبل، فتاهت عند مفترق طريقها، ولكنها خلّفت أثراً لن تمحوه ذاكرة الزمن.
****
بين نازك وجميلة بوحيرد
عز الدين ميهوبي
(الجزائر)
لا أعرف لماذا أجد شبهاً كبيراً بين الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة والمناضلة الكبيرة جميلة بوحيرد... فلو سألت قبل يومين واحداً من شعراء الجيل الجديد عن نازك الملائكة لأجابك «كانت رحمها الله...» من دون أن يعلم أنها على قيد الحياة إلى بداية صيف 2007 لأنها تنتمي لجيل الرواد الذين غادرنا كثير منهم قبل أربعين أو خمسين عاماً... فنازك ظلت حية ميتة بيننا... إنما صمتها عزز الظن بأنها لم تكن من هذا العالم... وهي الشاهدة على انهيار العراق وعلى حروبه الكثيرة... وهي الشاهدة أيضاً على فتنة الشعر العربي في زمن العولمة والبحث عن ذائقة جديدة...
وأما جميلة بوحيرد، فهي المرأة التي هزأت بجلاديها وخلدها السياب وقباني وعبدالصبور وحجازي في أشعارهم... واعتقد الشارع العربي الذي تفاعل مع الثورة الجزائرية وانتصارها أن جميلة واحدة من شهيدات هذه الثورة فأطلقت اسمها على شوارع عدة في عواصم عربية... في حين أن جميلة لا تزال حية ترزق بأناقتها وجمالها وكبرياء المرأة المنتصرة التي آثرت الصمت حتى تحتفظ بذلك الرصيد الثوري الذي أسكنها قلوب الملايين...
نازك وجميلة، هما امرأتان من طينة مختلفة تماماً، وكتب عليهن أن يلتزمن الصمت المقدس حتى يحتفظن بذلك التوهج الآسر والحب الكبير في وجدان الناس. كل الناس.
إن رحيل نازك الملائكة، المرأة التي سبقت عصرها برؤية المبدع المتجاوز للغة والزمن والتلقي، فاجتازت بوعي كبير حواجز النمطية للخوض في عملية تجريب عميقة على مستوى النص الشعري العربي الذي وصل مرحلة إشباع في الذائقة، وصار في حاجة إلى منافذ أخرى ومتنفسات على مستوى الإيقاع والبناء الفني... فظهرت نصوصها التي هيجت دعاة المحافظة على ما ترك الأولون (...) فنجحت المرأة الجريئة في إثارة حفيظة الرجال المنعمين بالركود القاتل... وفتحت مع أولئك الذين أدركوا الحاجة إلى التغيير والابتداع الواعي، وحققت النقلة الإبداعية المستمرة، ومنحت للشعراء فسحة أخرى لكتابة نص مختلف، لا يلغي ما كان قبلة، ولا يتفرد عما سيأتي بعده، بل هو إضافة نوعية ولمسة فنية متألقة، كانت اللغة والشعر العربيان في حاجة ماسة إليها في فترة بروز الرواية وبلوغ الشعر الكلاسيكي منتهاه. رحم الله نازك الشاعرة التي رحلت في هذا الزمن المر جداً.
****
نار القصيدة
محمد علي شمس الدين
(لبنان)
أخيراً ماتت نازك الملائكة. نكاد لا نصدق لكثرة ما أشيع عنها في السنوات العشر الأخيرة من حياتها المديدة من شائعات المرض والموت. حسناً! لقد ماتت أخيراً كما ينبغي لكل انسان. فلتكن مشمولة بما يليق ب «عاشقة الليل» وصاحبة «أنشودة الموت والحياة» من مقام.
يبقى من نازك شعرها وأثرها الابداعي والنظري في تحديث القصيدة العربية، فقد بدأ اسمها يلمع بقوة مع جيل الريادة الأولى من الحداثة الشعرية في العراق، مع السيّاب والبياتي وبلند الحيدري. زاملتها يومذاك شاعرات من مثل: فدوى طوقان وسلمى الخضراء الجيوسي. لكن اسمها كان الأهم، حتى بين الرياديين الذكور. وسبب ذلك يعود الى مجموعة قصائد حديثة كتبتها نازك من بينها قصيدة «الكوليرا» و «قصائد الألم». كتبت ثلاثة أناشيد للألم وخمس قصائد للألم. تميزت هذه القصائد بالتجديد الإيقاعي والبنائي للقصيدة الكلاسيكية، وبالنبض الانساني العميق، وملامسة الألم الذي كان يصهر هذه القصائد بنار حامية حتى لكأنها كانت تكتب في حال الغليان. أردفت الشاعرة هذه التجربة الإبداعية التجديدية بكتاب نظري مبكر حول الشعر الحرّ وهو كتاب عميق وريادي ومثقف وأخذت يومذاك ما تستحق من صدى.
ولكن فجأة وإثر عوامل يرجّح انها تربوية وبيئية اجتماعية عاد فغلب عليها التقليد وانحصرت شجاعتها الإبداعية، بل لعلها ارتدّت دفعة واحدة ضد الحداثة وضد نفسها أولاً، بما يشبه التبكيت الذاتي. دخلت في ما يشبه تجاهل النقد الحديث لها ولتجربتها اللاحقة ودخلت أيضاً حياتياً في هامش معتم من النسيان.
****
كاسرة الجمود والمألوف
عبدالعزيز السبيل
(السعودية)
الراحلة نازك الملائكة قامة إبداعية كبيرة، أحدثت حركة تحول فى مسيرة الشعر العربي. وإذا كانت الثقافة العربية قد فرضت على نفسها وألزمت الشعر العربي بأن يرتهن لقيود عروض الخليل بن أحمد الفراهيدي، فإن نازك الملائكة هي التي أعتقت الشعر من جموده الإيقاعي، وفتحت له آفاقاً رحبة وجدنا معها الشعر العربي ينطلق إلى فضاءات إبداعية أكبر.
إن نازك الملائكه كانت على وعي بما كتبت وما قدمت من تجديد، وإذا كانت بداية الشعر الحر تتنازعها أسماء كثيرة، فإن الريادة من دون ريب لنازك لأنها قدمت مشروعاً تنظيرياً متكاملاً، وهي التي حطمت هذا السور التقليدي، لينطلق بعدها المبدعون والمبدعات إلى تجارب شعرية ثرية ومتنوعة.
وإذا كان الشعر مذكراً والإيقاع مذكراً، فإن أنثوية نازك الملائكة هي التي نجحت في تحويل مساره الإبداعي.
إذا كانت نازك الملائكة رحلت عن دنيانا، فإنها ستبقى خالدة في ثقافتنا وفى أذهاننا، وستظل رمزاً لكسر الجمود واختراق المألوف لدى جميع الأجيال القادمة.
***
حارسة القصيدة الحرّة
سعد الحميدين
(السعودية)
نازك الملائكة عاشقة الليل وشاعرة الأجيال ومخططة مسار القصيدة الحديثة من القرن الماضي، بدءاً من قصيدتها «الكوليرا» 1947 ومقدمة ديوانها «شظايا ورماد» و «قرارة الوجه».
كانت الشاعرة الراحلة تمثل الخط الأول للدفاع عن الشعر الحر، إذ جعلته قضيتها فقد كتبت الدراسات والمقالات الكثيرة منظرة ومدافعة عن التوجه الجديد للشعر العربي في الخمسينات من القرن الماضي، فكانت تمثل المرأة العاكسة للحدث الشعري الذي مثل منعطفاً مهماً في الفن الشعري، عندما كونت الكثير من المعلومات عن الشعر الجديد ورصدتها ووثقتها في كتابها الشهير «قضايا الشعر المعاصر»، الذي كان النواة الأولى في الدراسات حول الشعر الجديد «الحر» من الناحية الفنية والرؤيوية، وجسدت فيه ما يشبه العرف الذي ساد عند الشعراء والناقدين مدة طويلة.
فقد رجع وما زال يرجع إلى كتابها هذا عدد من الباحثين والناقدين من الدارسين للشعر الجديد، والى اليوم تذكر نازك الملائكة في كل وربما معظم الدراسات عن الشعر العربي في تقنياته الجديدة وتوجيهاته الحديثة.
قادت الشاعرة العراقية نازك في شعرها حملات تنويرية حول الشعر الجديد وفتحت بابا للدراسات التي توالت وما زالت عن التحولات الحديثة في الشعر العربي، وهى دراسة واعية تملك ثقافة عريضة مصممة بالمعارف كما تدل على ذلك مؤلفاتها عن الشعر والحياة مع دواوينها الشعرية، التي كانت مواكبة للمتطلبات الحياتية لشاعرة مهمومة بالحياة والناس.
غابت الملائكة ولكنها تركت الكثير من الإعمال المهمة في الشأن الثقافي والإبداعي، ومهما كانت المحاولات لطمس منجزاتها التي تركزت على تطوير الشعر العربي، فإنها بإعمالها بقيت وستبقى متجددة على مر الزمن وهكذا شأن المبدع الصادق.
الحياة يونيو 2007
************************
رحيل الشاعرة العراقية نازك الملائكة
(1923 - 2007)
أضاءت كالنيزك في فضاء الريادة الشعرية الواسع
ثم اختارت أن تنتظر كل شيء في الظلال الرطبة
بيروت القسم الثقافي / عمان موسى برهومة
نازك الملائكة رحلت، محزونة، خائبة، معدمة، مريضة، وحيدة في منفاها في القاهرة، وكأن مصير المثقفين العراقيين والكتاب والفنانين أن يموتوا في منافيهم الكثيرة. رائدة الشعر العربي الحديث، مؤسسة ثورة الشعر الحر، عن 84 عاماً (مواليد 1923)، مخلّفة وراءها إرثاً لم يكن يوماً سوى ما نضح به قلبها وعقلها وشعريتها، وما نبع من حالاتها واعتمالاتها وقلقها، وحضورها كإمرأة، تحمل ما تحمل من هواجس المراحل، ومن تفتحات القيم الجديدة، ومن إلزامات الموروث، ومن الخروج على "طاعة" الأمر الواقع. إنها امرأة افتتحت الريادة الشعرية، بكل "عفوية"، عفوية "الخروج" أو "التمرد" أو "الجنون" لكنها بهدوء امرأة تربت على الصمت، والهامشية، والكتاب، والشعر، وهذا ما ترك أثره على امتداد حياتها. لم تألف الضجيج الإعلامي، ولم تحترف أسلوب "العصابات" والمافيات، والأخوانيات، ولا طقوس التزلف، ولا مراتب الأنظمة والأحزاب والقبائل والطوائف. سجلت ريادتها وحدها هكذا، كما فتح نافذته وأطلق منها طيراً فريداً... ولهذا، بقيت، باختيارها، على الهامش... حتى النسيان، وفي العزلة حتى التجاهل، وفي الانفراد حتى حاول كثيرون من ممتهني "سرقة" أدوار الآخرين أن يصادروا دورها وريادتها ونفاذها الى معظم الشعراء الذي كتبوا بعد قصيدتها الأم في الريادة "الكوليرا" (1947). إنها رفيقة السيّاب، وشقيقته في "الاجتراح" لكنها تداركت، وكأنها تبغي تراجعاً عما أنجزته في قصيدة التفعيلة تعود الى العمودي المشطر، بل وكأنها "ثارت" واستكانت، أو فلنقل عادت الى شيء من الواقع الأليف. لكن مع هذا لم يكن في شعرها العمودي الذي ابتدأت به عام 1945، والذي صاغته بعد ثورتها، من مألوف نمطي. كأنها أكملت خروجها على الموزون التاريخي، بدخولها إليه، لتحاول جعله حيّزاً حياً يمكن أن يختزن ما يعتمل به الداخل، أو القلق.
في هذه المناسبة، شهادات من كتاب وشعراء وشيء من شعرها ويومياتها.
***
بدأت قصيدتها باسمها
سميح القاسم
(فلسطين)
نازك الملائكة تركيبة لغوية وشعرية إنسانية فريدة. من اسمها نبدأ، فنازك يوحي بالأناقة والرقة والأنوثة واللباقة. والملائكة توحي بما توحي به من خيال وطهارة ونبل وقدرة على رؤية العالم.
بدأت قصيدتها باسمها. ومع مرور الزمن أثبتت جدارة هذا التناسق بين الاسم والفكر والجسد والروح والقصيدة.
نازك من أسماء التجديد العالية في الشعر العربي الحديث. وكلنا يذكر معركتها حول دورها في الريادة مع بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي.
وبغض النظر عن الروزنامة، تبقى نازك من الإشراقات الأولى في تحديث الشعر العربي. ويظل دورها كشاعرة وامرأة وإنسانة عراقية عربية جميلاً ومتداخلاً بحيث يغدو رحيلها محزناً بكل المقاييس.
وما يدهش أن الأرض العراقية تبدو أرضاً صالحة لنمو الشعر. فبعد نازك الملائكة والبياتي والسياب والعملاق محمد مهدي الجواهري ما زالت الأرض العراقية والعذاب العراقي والدم العراقي يقدم جدارته الأصيلة في الإبداع الشعري، ففي العراق أصوات جديدة جديرة بكل انتباه.
ولا يبقى لنا إلا أن نطلب لأختنا وحبيبتنا نازك الملائكة غفران الله ورضوانه، فكل نفس ذائقة الموت حتى أنفس الشعراء.
***
ثارت قبل ستين عاماً
إبراهيم نصرالله
(الأردن)
ذات يوم وضعت اللبنة الأولى في مبنى حداثتنا الشعرية، ذات يوم كانت الأم، وسواء واصلت الانجاب أو توقفت فإنها تبقى أمّاً، وإلا فالأمر يدعو للحزن والأسى، إذا ما اعتبرنا الأم، أي أم، ليست أماً، لمجرد أنها كفّت عن الإنجاب.
لعل نازك الملائكة لم تلدنا مباشرة نحن الذين جئنا بعد ربع قرن من بدء مسيرتها، لكنها بالتأكيد ولدت كثيرين قبلنا، وكان لهم الحضور اللافت في مسيرة أرواحنا.
المحزن في كل هذا، هو دورة الحياة، ورياح الموت التي لا تبقي ولا تذر، فكلما ودّعنا أحداً من هؤلاء الكبار، اقتربنا أكثر من تلك اللحظة التي لن نستطيع فيها أن نلوّح لأنفسنا في وداعنا الخاص.
ستعيش نازك الملائكة بقوة الريادة، لأن الريادة تحمل في جوهرها قيمة الشجاعة وكسر الساكن وتذرية الغبار المتراكم على إيقاع القلب وشفافية الروح.
لقد فعلت الكثير حين ثارت قبل ستين عاماً، ولم تكتب قصيدتها فقط، بل كتبت القصائد التي كُتبت بعدها، والتي ستُكتب.
****
أهميتها مرتبطة بسياق تاريخي
فيصل دراج
(فلسطين)
تعود أهمية نازك الملائكة إلى السياق التاريخي الذي شهد تجربتها الشعرية إلى جانب بدر شاكر السياب. وكان قد سبقهما زمانياً الشاعر السوري نزار قباني الذي بدأ حداثته الشعرية في بداية اربعينيات القرن الماضي.
وواقع الأمر أن الملائكة لم تدشن أو تؤسس لمرحلة شعرية جديدة ولم تلعب، لاحقاً، دوراً مميزاً في تطوير الحداثة الشعرية. فهذه الحداثة سبقت بزمن طويل قصيدتها "كوليرا" التي أثارت لغطاً طويلاً بعد نشرها وأدخلها في سجال مع السياب وغيره، ذلك أن الحداثة الشعرية العربية جاءت معها جماعة "أبولو" وخليل مطران والشعر المهجري اللبناني، إضافة إلى ملاحظات لامعة لأمين الريحاني.
بهذا المعنى فإن الحداثة لم تنتظر الإبداع الشعري لنازك الملائكة، إضافة إلى أن تطور هذه الحداثة تم لاحقاً بمعزل كلي عن الشاعرة الراحلة من خلال أسماء كثيرة اندرج فيها أدونيس وخليل حاوي ومجلة شعر.
ولعل ما سبق نازك بالمعنى الشعري وما جاء بعدها بالمعنى الشعري أيضا يجعل أهميتها مرتبطة بسياق تاريخي محدد من دون أن يجعل من مساهمتها عنصراً دالاً وأساسياً في تطوير الحداثة الشعرية العربية.
وفي الحالات جميعاً، فإن دور الراحلة الكبيرة لا يُرى إلا إلى جانب مجموعة كبيرة من الأسماء ضمت السياب والبياتي وانطلقت أولاً من سياق عربي جديد أسقط بعد العام 1948 الرومانتيكية العربية المفروضة وفرض أسئلة جديدة على الكتابة الشعرية.
***
جذبتني طيبتها وبساطتها
فخري قعوار
(الأردن)
سبق أن استضفت الشاعرة الراحلة نازك الملائكة في عمّان للعلاج عندما كنت رئيساً لاتحاد الكتاب والأدباء العرب. وعملنا من أجل أن تتلقى العلاج على نفقة الديوان الملكي الهاشمي الذي بادر رئيسه آنذاك الدكتور والناقد المثقف خالد الكركي إلى بذل جهد محمود في هذا السياق.
ومن خلال هذه الحادثة تلمست الجانب الإنساني في شخصية الملائكة، وجذبني فيها طيبتها وودها وبساطتها. لقد كانت مبدعة في الكتابة وفي صمتها الإنساني العميق.
***
ممثلة حقبة لمناخ رومانتيكي
علي بدر
(العراق/الأردن)
كانت نازك ممثلة حقبة لمناخ رومانتيكي كان سائدا في العراق ذلك الوقت لدى الطبقة الوسطى. وهذا تمثل في ديوانها الأول "عاشقة الليل" الذي نشر في العام 1947، لكنها سرعان ما أدركت ان وجودها داخل العراق مرتبط بتحول عميق في المجتمع العربي، فتعلقت بنوع من الإنكار المطلق لتراث يحض على القبول والارتهان.
وهكذا ظهر ديوانها "شظايا ورماد" الذي صدر في العام 1949، وقد ارتبطت منذ ذلك الوقت بموجة الشعر الحر وهي موجة انخرط فيها عدد من الشعراء الذين أرادوا مراجعة نظام الشعر العربي الذي مر عليه سقف زماني عمره ألفا عام.
بكلام آخر أرادت هذه الشابة من عائلة الملائكة، أعرق الأسر البغدادية، أن تجعل من هذا الإنكار المطلق نوعاً من قبول شكل من التهديم المتحفظ لواحدة من أقدس أقداس الأمة.
لا أحب شعرها
رسمي أبو علي
(فلسطين/الأردن)
أهمية نازك الملائكة تكمن في ريادتها التاريخية. أما على الصعيد الشعري فلست من المؤمنين بها. ربما هذا تقصير مني، لكنني لا أحب شعرها رغم إقراري باهميتها كشاعرة. لذا أراني أشعر بالأسى لرحيل هذه الرائدة الكبيرة.
***
كلاسيكية في ثياب المجددين
فخري صالح
(الأردن)
مع أن ما يقوله مؤرخو الشعر العربي المعاصر في ما يتعلق بريادة نازك الملائكة لقصيدة التفعيلة يغمط حق زملائها مثل السياب والبياتي وبلند الحيدري، إلا أن المتعارف عليه الآن والذي يصعب محوه من الذاكرة النقدية العربية هو أنها كانت أول من كتب قصيدة تفعيلة. وقد جعلها هذا السبق المؤرخ له تفتح باب الشعر العربي على رياح التغيير في التعبير الشعري العربي بصورة عامة.
كما أن هذا التحوّل وضعها في مواجهة الشعراء العرب المجايلين لها والداعين إلى حرية القصيدة المعاصرة في اتخاذ الشكل الذي ترتأيه بغض النظر عن مسافة ابتعاد هذه القصيدة أو اقترابها من الموروث الشعري العربي.
وفي كتابها "قضايا الشعر العربي المعاصر" فتحت النار على هؤلاء المجددين الذين أخذوا القصيدة العربية إلى آفاق أبعد من تلك التي أرادتها نازك الملائكة.
ولهذا نظر النقد العربي في النصف الثاني من القرن العشرين إلى ما حققته نازك الملائكة سواء في شعرها أو في تنظيرها بعين الريبة، فهي من وجهة النظر هذه كانت كلاسيكية في ثياب المجددين، خصوصا أنها في ما تلا قصيدة "كوليرا" من ديوانها "عاشقة الليل" نكصت عن الروح المجددة لشعرها في ذلك الديوان. ولهذا هوجمت نازك كثيرا من قبل شعراء مجلة "شعر" على التخصيص، لكنها تظل من وجهة نظري من بين المجددين لروح الشعر العربي، وأجرها تحقق في فتحها آفاق الشعر العربي على رياح التغيير الإيقاعي على الأقل.
***
كبرياء الموهبة
عصام العبدالله
(لبنان)
كأن الموت فاتحة النسيان. من زمان لم ينتبه أحد الى نازك الملائكة وهي تعاني غيابها البطيء ونسيانها القاهر. إحدى القامات التي فكفكت البيت الشعري وأعادته الى أوالياته، وأعين التفعيلة. ثمة موازنة بينها وبين بدر شاكر السياب. يقال بأنها الأولى ويقال بأنه الأول. إلا أنهما معاً يشكلان ذلك الملمح الحديث لكتابة الشعر العربي. وتلفت نازك الملائكة بأنها كانت ناقدة بالمعنى الريادي للكلمة. فهي من الذين أضاؤوا فسحتهم شخصياً وأضاؤوا على إنتاج الآخرين. كأنها أم ولودة وكأننا في غيابها نخسر أحد الشهود الكبار على سياق القصيدة العربية الحديثة. لا أشعر بحزن بقدر ما أشعر بكبرياء الموهبة الباقية.
***